إعداد الدكتور: محمد محمود إبراهيم عويس
أولا : القضية ( الأزمة . . والسوق )
وجود موضوع بات يفرض نفسه على تفكيري و سيطر على أولويات تناول عددا من الأفكار العلمية التي توارت مؤقتا لتحل بدلا منها قضية أزمة المهنة ووضعيتها في المجتمع المصري حالياً ، حيث أصبحت تؤثر تلك الوضعية على حال المؤسسات التى تمارس فيها و على منظماتها الأكاديمية و أيضاً على مستقبلها و فكرة تطورها أو حتى- ليأذن لي القارئ أن أقول- مجرد بقائها و منافستها لباقي المهن في السوق المصري.
التاريخ والمهنة :
1- و نبدأ من التاريخ،حيث يمكن أن نروي باختصار قصة نشأة المهنة في مصر من خلال ثلاث مراحل زمنية متعاقبة ، تبدأ أولاها ( بالمرحلة الأولى ) التي تزامنت مع بدء إنشاء أول مدرستين للخدمة الإجتماعية بالأسكندرية و القاهرة عامي 1936 و 1937 على التوالي و بدء الممارسة المهنية بوزارة التربية و التعليم (المعارف آنذاك) و استمرت هذه المرحلة -للأسف الشديد- سنوات قليلة ، لاتتعدى ما يقارب الخمسة عشر عاماً أو ما يزيد بقليل ، إذ حدث حراكا أيديولوجياً و سياسياً أثر على كافة مناحي الحياة في مصر نتيجة ثورة يوليو 1952، فقد شهدت تلك المرحلة الأولى ظهوراً طموحاً للمهنة نتيجة حركة الرواد الأوائل و التي تمثل أهمها في محاولة نقل ؛ آليات التعليم و الممارسة لمهنة إنسانية تعتمد على الديموقراطية والمرونة فى اتخاذ القرار وذات أسس علمية ؛ من المؤسسين الأوائل لها فى الولايات المتحدة الآمريكية وبعض دول أوروبا الغربية حيث تم وضع الأساس العلمي لتخصص مهني يساعد في حل المشكلات الفردية و الجماعية و المجتمعية في اتجاه تحقيق انتاجية متطورة للأفراد والمنظمات تساعد في نمو المجتمع و ارتقاؤه ، واعتمادا على حركة النقل و الترجمة الدقيقة آنذاك وضعت اللوائح العلمية لمناهج تعليم المهنة في مصر بمدرستي الخدمة الاجتماعية وتبعها انشاء المعهد العالى للخدمة الاجتماعية بالقاهرة الذى أصبح فيما بعد كلية الخدمة الاجتماعية بجامعة حلوان ، وتخرج بالفعل العديد من رواد المهنة في مصر ، إضافة إلى تأسيس الممارسة المهنية على منهج وفكرة الحرية في النموذج الليبرالي وعدم خضوع الممارسة للسيطرة الحكومية و محاولة تمكين الممارس من الإبداع و اتخاذ القرارات العملية لتحقيق الأهداف المهنية وفقاً لصالح العملاء و دعماً للتطور المهني فى اتجاة نمو وتقدم المجتمع . و نتيجة لذلك نرى في الكتابات العربية و الأجنبية على حد سواء عدد من النماذج المشرفة للممارسة المهنية فى مصر،والتى ظهر أهمها في مجال العمل الأهلى و ساهمت في إنشاء وزارة الشئون الإجتماعية مثل جهود ( الجمعية المصرية للدراسات الإجتماعية) و غير ذلك مما ورد في التراث الموثق مثل تجربة (المنايل و شطانوف) مما كان له بالغ الأثر الإيجابي المستمرعلى مسيرة المهنة في مصر حتى الآن .
2- وبقيام ثورة يوليو 1952 انتقل المجتمع المصري- فجأة- إلى عالم الأيديولوجية الإشتراكية التي تؤمن بسيطرة الدولة على كافة أنشطة الحياة الإقتصادية و السياسية و الإجتماعية ، وانعكس ذلك مباشرة على التعليم والممارسة لمختلف المهن ومنها الخدمة الاجتماعية ، و ظهرت القوانين المقيدة لحركة الإبداع و الإبتكار مثل قانون 32 لسنة 1964 الخاص بالمؤسسات و الجمعيات الخاصة و الذي اثر سلباً على حركة العمل الأهلي. وتأثرت الخدمة الإجتماعية بهذا التحول الأيديولوجي الجذري والمفاجئ ؛ حيث هى مهنة إصلاح وتعديل للسلوك الاجتماعى وتتأثر بالمناخ السياسى والاقتصادى السائد فى المجتمع و كانت مهنة وليدة و حديثة و تحتاج إلي بيئة ملائمة للنمو تتسم بتوفير المناخ الديمقراطي الذي يوفر الحرية في اتخاذ القرار واللا نمطية في أداء الخدمات و حرية العمل الأهلي غير الحكومي والاهتمام بالممارسة الخاصة المؤدية لتراكم الخبرات المهنية المتطورة، تلك الظروف التي اختفت- تقريباً- من الحياة السياسية والإجتماعية في مصر منذ قيام الثورة وإلى ما بعد حرب أكتوبر1973وحتى التسعينيات، مما يمكن اعتبار أن الخدمة الإجتماعية كمهنة و كنظام تعليمي صادفها حظ عاثر بسبب ذلك التغيير المشار إليه ، أثر سلبا على نموها فى الاتجاة الصحيح؛ فمثلا :
(أ) أفادت الحكومات الإشتراكية المتعاقبة بعد الثورة مهنة الخدمة الإجتماعية من المنظور الوظيفي للأخصائيين الإجتماعيين بشكل كبير على المستوى الأفقي (العرضي) ؛ حيث انتشر الأخصائيون الإجتماعيون في كافة المؤسسات الحكومية بقوة القوانين الإدارية كأحد نواتج التعليم العالى و اكتسبوا وضعية وظيفية مثلهم مثل باقي التخصصات وتدرجوا في درجات الترقي الحكومي مما ساعد على انتشار المهنة بشكل كان يؤهل لمزيد من التطور المهني إذا ما تم الإستفادة من تلك الفرصة التي سنحت لها،لكن ولعدم وجود بنيان مهنى راسخ نتيجة حداثة التكوين ؛ فقد فقدت الأساس الديمقراطي الذي قامت عليه فكرة الممارسة الحرة و الخاصة و تحول الأخصائي الإجتماعي إلى موظف حكومي بيروقراطي يطيع أوامر رؤسائه و يفتقد القدرة على اتخاذ القرار و يطبق مقررات مقننة سلفاً،واكتست الممارسة المهنية بالثوب الحكومي الخالص و نزعت عن كيانها رداء الولادة والتكوين الأصلي المتسم بالمرونة و الديمقراطية ، و صار الأخصائي الإجتماعي موظفاً منفصلا عن البناء العلمي و تحول إلى آداة إدارية للمؤسسة التى يعمل بها ،ولم يؤدي أفعالاً مؤثرة ومميزة مهنيا حتى أصبحت المهام التي يؤديها ممكنة الآداء من أي تخصص آخر حتى ولو كان مؤهلا متوسطاً ؛ وانغمست المهنة فى بوتقة العمل النمطى ونسيت طابعها العلاجى المعتمد على حرية اتخاذ القرار، وحرمت من الممارسة الخاصة ، حتى فى المجالات الأولية مثل الدفاع الاجتماعى ومجال الأسرة والطفل .
(ب) أما بالنسبة لتعليم الخدمة الاجتماعية فقد أفاد التحول الاشتراكى المهنة- أيضا – بالموافقة على الإنتشار العرضى لكليات و معاهد الخدمة الإجتماعية في مختلف محافظات مصر ، و اعترفت الحكومة بالدرجات العلمية من الدبلوم المتوسط و البكالوريوس إلى الدبلومات العالية و الماجستير و الدكتوراة، و أفادت فكرة ( التنسيق )- كقناة وحيدة للدخول إلى التعليم العالي – جميع الكليات و المعاهد المشار إليها ، حيث اكتظت بالطلاب الحاصلين على الثانوية العامة و الراغبين في الحصول على مجرد “شهادة عالية”- تلك القيمة التي توارثها المجتمع المصري في حقب الستينيات إلى منتصف التسعينيات وما زالت آثارها إلى الآن- حيث تتيح لهم العمل في الحكومة دون النظر إلى طبيعة التخصص المهني و اشتراطاته حتى لتحولت الاختبارات الشخصية المقررة لصلاحية دراسة الخدمة الإجتماعية إلى مجرد إجراء شكلي وروتيني. وعلى الجانب الآخر؛ اجتهد القائمون على أمر تعليم المهنة لتحقيق أهدافهم الشخصية والوظيفية والمهنية على قدر ما تحقق لهم من أسباب ، وحاولوا من خلال جهدهم العلمى تفسير أسباب نشأتها و برامج ممارستها و فلسفة تلك الممارسة و الأساليب و الأدوات و المهارات ، ولكن تلك الجهود جاءت بشكل فردى وبدون اطار تراكمى علمى مما أثر سلبا على مصداقية المهنة التى ادخلت في متاهات أعمال الخير و الإصلاح و ابتعدت عن التفسير العلمي المقنن لها نتيجة انحسار جهود الترجمة و التواصل العلمي مع المؤسسات الدولية اعتماداً على وجهة النظر التى تهتم بالكم لا بالكيف ولا تأبه بحوافز الربط بين التعليم والممارسة والتي ترى في الأخصائي الاجتماعي موظفاً لا حاجة له بآليات التطبيق الديموقراطى حتى صارت هناك عبر الفترة التي امتدت على ما يزيد عن الثلاثين عاماً ، اتجاهات جدلية تصارعت عند القائمين على التعليم لم تؤدي إلى التقدم ، بل أدت إلى مزيد من الإختلاف في وجهات النظر و الإبتعاد عن الأصول العلمية المقننة للمهنة ، وهو ما يتضح فى حركة البحث العلمى فى المهنة حيث لم تتطور إلى مزيد من التخصص و لكنها أصيبت بمزيد من التسطح و العمومية و افتقاد الرؤية الثاقبة لأهداف التخصص؛ هذه الإتجاهات مثل( التوطين أم التأصيل-المهنة علاجية أم تنموية – أسلمة الخدمة الإجتماعية- المهنة طرق أم مجالات-الممارسة الحديثة عامة أم طرق ……الخ) هى التى صارت تناقش في المؤتمرات و الأبحاث دون أن تضيف جديدا إلى عمق الممارسة؛ والدليل على ذلك بدا فى عدم التوصل إلى تقنيات متطورة فى علاج المشكلات التى يجب أن تتصدى لها المهنة واعتماد الممارسين على أساليب نمطية بيروقراطية لا تستند إلى العلم بقدر ما تعتمد على الاجتهادات الشخصية ، الأمر الذى لم يؤدى إلى تطوير الوضعية المهنية بل قام بتقييدها فى حدود الأزمة والتهوين المجتمعى .
وكانت قد بدت اهتمامات القائمين على التعليم في مرحلة الستينيات و السبعينيات على وجه الخصوص بمحاولة الإلتقاء في نقطة واحدة مع اهتمامات النظام الاشتراكي و هو السائد في تلك الفترة فظهرت الكتب و المقالات التي حاولت أن تصبغ المهنة الديمقراطية في أساسها بالصبغة الإشتراكية ؛ فجاءت بعض العناوين مثل الخدمة الإجتماعية و الميثاق،خدمة الفرد في المجتمع الاشتراكي،التخطيط الإجتماعي في المجتمع الاشتراكي،تنظيم المجتمع و قضايا التنمية و تمحورت معظم الأبحاث حول أدوار الأخصائي الأجتماعي في العديد من المؤسسات بشكل عام غير متعمق ، وعنونت معظم البحوث بعناوين غاية فى العمومية مثل ( دور خدمة الفرد فى . . اسهامات تنظيم المجتمع فى. . مهام التخطيط الاجتماعى فى. . وهكذا) مما كان له بالغ الأثر فى حالة الأزمة المهنية التى أشرنا اليها .
(ج) وهنا تلزم الإشارة إلى أن ماحدث للمهنة فى مصر إبان فترة التحول الاشتراكى لم يكن بسبب أبناء المهنة أنفسهم فقط بقدر ما كان بسبب التحولات السياسية المتكررة التى لم تمهل للوليد أن يكبر ويشتد عوده ليستطيع أن يواجه التغيرات ويطوعها لصالحه ، ولكن تلك التحولات عصفت بالوليد وتركته ينمو ولكن بشكل غير صحى!
واتسمت هذة المرحلة أيضا بنشأة نقابة الاجتماعيين مما يعد تطور مهم إلا أنها زاوجت فى ارتباط غير مبرر علميا بين خريجى الخدمة الاجتماعية وأقسام علم الاجتماع وعلم النفس ، وابتعدت أنشطتها عن تدعيم أبنائها والدفاع عن حقوقهم ولم تؤثر ايجابا فى مسيرة المهنة ، وغير ذلك فقد ظهرت مجموعة من القوانين والقرارات اليروقراطية التى تنظم عمل الآخصائيين الاجتماعيين فى المؤسسات المختلفة ولكنها لم تميز الخريجين عن خريجى علم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما ، مثل ما يتعلق بشروط العمل فى جميع المؤسسات الحكومية وأهمها فى المجالات الأصيلة للمهنة مثل الدفاع الاجتماعى كرعاية الأحداث وغيرها ، مما ساهم أيضا فى أزمة الهوية حيث لم تجد المهنة من يدافع عنها وعن كينونتها سواء بالأساليب العلمية أو الدفاعية المجتمعية .
3- أما المرحلة الثالثة ؛ فيمكن تمييزها بعودة النظام السياسي مرة أخرى إلى الديموقراطية والاتجاة الاقتصادى الحر والبدء فى تدعيم العمل الأهلى وانسحاب السيطرة الحكومية عن معظم الأنشطة بالتدريج ،وكان من الواضح أنه بعد حرب وانتصار أكتوبر 1973 ، أن الدولة تنوي الاتجاة إلى أيديولوجية السوق الرأسمالى ، وسارت فى الثمانينات والتسعينيات صوب الانفتاح على الغرب ثم تغيير الأفكار والاتجاهات والقرارات المجتمعية شيئا فشيئا إلى حد اتباع جميع آليات هذا النظام الجديد كما نرى حاليا .
ومرة أخرى تسنح أمام المهنة فرصة ذهبية لإثبات الوجود والدخول بقوة إلى عالم المنافسة وإحداث التأثير فى المجتمع والناس ، ذلك أن الدولة أفصحت لكل من هو متأمل وقارئ ومفكر ومتعلم فى أى مجال كان ،عن أنها تسير وبإصرار فى اتجاة السوق الحر على كل المستويات ؛ وهى البيئة التى افتقدتها المهنة فى فترة التحول الاشتراكى ، فالأرض التى تحتاجها للحياة والنمو قادمة وبأسرع مما نتصور ويجب على جميع أبنائها أن يتحركون وبسرعة للإستفادة من هذا التغيير المرغوب من وجهة الأساس الفلسفى للمهنة .
لكن الأمور تأتى بما لا تشتهى السفن ؛ فاستمر حال الممارسة كما هو ولم يشعر الأخصائيون الاجتماعيون ( الأكاديميون والتنفيذيون ) بأى تغيير قادم وأى خطر يمكن أن يحدق بالمهنة نتيجة دخولها عالم المنافسة الحرة على مستوى المنظمات التنفيذية وأيضا التعليمية ، دون امتلاك أدوات وأساليب تلك المنافسة ، وكانت الأمثلة التالية هى بعض نتائج استمرار الانفصال عن الواقع السياسى والاقتصادى المعاصر :
-
(أ) بانتهاء سياسة التعيين والقوى العاملة وانتشار المنظمات الخاصة فى مختلف المجالات( المسشفيات – المدارس – المعاهد والجامعات الخاصة – المصانع والشركات . . . إلخ |) اختفت تقريبا وظيفة الأخصائى الاجنماعى ولنا أن نتصور الخطورة باستمرار استراتيجية الخصخصة على كيان المهنة فى المجتمع ، إذا لم يمتلك الأخصائيون الاجتماعيون المهارات والأدوات المهنية العلمية التى تمكنهم من التأثير فى وحدات المجتمع المختلفة ، والقدرة على التعامل مع فلسفة حرية رأس المال الخاص وما يترتب عليها من تداعيات مجتمعية ومهنية .